سورة النساء - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك إنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر رسول الله إلى المدينة وأسلم معه، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله، وأن يبلغ أهل مكة إسلامه، فخرج هارباً من مكة إلى المدينة، ثم قدمها فكان أطماً من آطامها فتحصن فيه، فجزعت لذلك امه جزعاً شديداً، حين بلغها إسلامه، وخروجه إلى المدينة، فقالت: لابنها الحرث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه، والله لايظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به، فخرج في طلبه وخرج معهم الحرث ابن زيد بن أبي أنيسة من الكعبة إلى المدينة، فأتوا بالمدينة، فاتوا عياشاً وهو في الأطم «يعني الجبل» فقالا له: إنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حَلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها. ذلك عهد الله علينا ان لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له خرج اليهم ثم حلفوا بالله، فنزل إليهم فأخرجوه من المدينة، ثم أوثقوه بنسع فجلده كل رجل منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه وهي أسماء بنت مخرمة، فلما دخل قالت: والله لا أفكك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به.
ثم تركوه متروكاً موثقاً في الشمس ماشاء الله ثم أعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحرث بن زيد، فقال له: ياعياش هذا الذي كنت عليه، فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقاله، وقال: والله لا ألقاك خالياً أبداً إلاّ قتلتك، ثم أن حارثاً بعد ذلك أسلم وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان عياش يؤمئذ حاضراً، ولم يشعر باسلامه فبينا عياش حاضر إذ لقي الحرث بن زيد ولما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس: أي شيء صنعت إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد كان أمري وأمر الحرث ماقد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنزل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً وليس معنى قوله: {وَمَا كَانَ} على النفي وإنما هو على التحريم والنهي كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53].
ولو كان ذلك على النفي لما وجدت مؤمناً قتل مؤمناً قط لأنّ ما نفى الله لم يجز وجوده. كقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] ولايقدر العباد على إنبات شجرها البتة.
وقوله تعالى: {إِلاَّ خَطَئاً} عندنا ليس من الأول للمعنى.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} البتة إلاّ أن المؤمن قد يخطئ في القتل وكفّارة خطأه ما ذكر بعده.
قال أبو عبيدة: العرب تستثني الشيء من الشيء فليس منه على اختصار وضمير، أي ليس مؤمناً على حال، إلاّ أن يقتل مخطئاً فإن قتله مؤمناً فعليه، كذا وكذا، ومثله قوله: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] واللمم ليس من الكبائر ومعناه إلاّ أن يلم بالفواحش والكبائر أي يقرب منها.
ومثله قول جرير:
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ *** على الأرض إلاّ ذيل برد مرجّل
فكأنه قال: لم يطأ على الأرض إلاّ أن يطأ ذيل البرد فليس هو من الأرض.
وقال أبو خراش الهذلي:
أمست سقام خلاء لا أنيس به *** إلاّ السباع ومرّ الريح بالغرف
الغرف متجر يعمل فيها الغرابيل، وسقام واد لهذيل وكان أبو عمر الهذلي يرتع ذلك ومثله قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس *** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس
يقول: إلاّ أن يكون بها اليعافير والعيس.
وقال بعضهم: إلاّ ههنا معنى لكن فكأنه قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} ولا عمداً إلاّ بحال. لكن إن قتله خطأ فكذا وكذا وهذا كقوله: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] معناه لكن تجارة عن تراض منكم.
وقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه تحرير أي إعتاق {رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}.
قال المفسرون: المؤمنة المصلية المدركة التي حصّلت الإيمان، فإذا لم تكن المؤمنة جبرها الصغيرة المولود فما فوقه ممن ليس بها زمانة {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} أي كاملة إلى أهل القتيل الذين يرثهم ويرثونه {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية.
{فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} الآية على القاتل ولا دية لأهل القتيل، لأنهم كفار محاربون ومالهم في المسلمين وليس بينهم وبين الله عهد، ولا ذمّة وذلك ان الرجل كان يسلم ولا يسلم من تبعه غيره وقومه حرب للمسلمين فيصيبه الرجل.
وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له فنزلت هذه الآية {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وليست له دية، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمناً من قوم كانوا حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه عهد ثم قال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي عهد فأصبتم رجلاً منهم {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} على الفاعل {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لا تفرق بين صيامه {تَوْبَةً مِّنَ الله} وجعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ {وَكَانَ الله عَلِيماً} بمن قتله خطئاً {حَكِيماً} فيمن حكم عليه.
والدية في الخطأ، مائة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل.
فقال الشافعي في القديم: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم.
وأما اسنان المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردَّ إلى الدية ليربطون خلفه، [......] حقّه، وثلاثون جذعة.
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية نزلت في معين بن ضبابة الكناني، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار وكان مسلماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأرسل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر، فقال له: أيت بني النجار؟ وأقرأهم السلام وقل لهم: إن رسول الله يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعاً وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي ديته قال: فأعطوه مائة من الإبل ثم إنصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غَرَّهُ الشيطان قال: فوسوس إليه، فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفساً مكان نفس ومعك الدية.
قال: فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً منها وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة كافراً، فجعل يقول في شعره:
قتلت به فهراً وحملت عقله *** سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثاري واضطجعت موسّداً *** وكنت إلى الأوثان أوّل راجع
قول فيه {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} بكفره، وارتداده عن الإسلام.
حكم هذه الآية:
فقالت الخوارج والمعتزلة: إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمناً وهذا الوعيد لاحق به.
وقالت المرجئة: إنّها نزلت في كافر قتل مؤمناً، فأما المؤمن إذا قتل مؤمناً فإنه لايدخل النار.
وقالت طائفة من أصحاب الحديث، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً وواعد عليه مالبث إلاّ أن يتوب أو يستغفر.
وقالت طائفة منهم: كل مؤمن قتل مؤمناً فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبه لمن قتل مؤمناً متعمداً.
وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً فإنه لايكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان، إلاّ إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة.
فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلاً ممن قتله وذلك كفارة له، فإن كان تائباً من ذلك ولم يكن منقاداً ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له.
وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء الله لايخلف وعداً وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلاً، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والدليل على أن المؤمن لايصير بقتله المؤمن كافراً ولا خارجاً من الإيمان أنّ الله تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمناً بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178].
والقصاص لايكون إلاّ في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فلم يرد به إلاّ أخوة الإيمان، والكافر لايكون أخاً للمؤمن.
ثم قال: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذاباً أليماً بقوله: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178].
ولم يرد مع مثلها الغضب، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب ناراً، والعذاب قد يكون ناراً وقد يكون غيرها في الدنيا، ألا ترى إلى قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] يعني القتل والأسر، والدليل عليه قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] مخاطباً المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال الله {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجر: 9] واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ، والدليل عليه أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وعلى مافي القرآن ممن فعل من ذلك شيئاً، فكان عليه أجراً فهو كفارة له، ومن كفر بالله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولو كان القاتل خارجاً عن الإسلام. لم يكن لقول النبي صلى الله عليه وسلم معنى، وروي أنّ مؤمناً قتل مؤمناً متعمّداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمر القاتل بالايمان من فعله ولو كان كافراً أو خارجاً عن الإيمان. لأمره أولاً بالإيمان.
وقال: لطالب الدم أتعفو؟ قال: لا ثم قال أتأخذ الدية؟ قال: لا، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر، ولو كان ذلك كفراً لبينهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بكفر كان قد حَرُمَ بها أهله عليه، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح، الشفيق، المبعوث بالتأديب والتعليم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «ثلاثة من أهل الإسلام. الكفّ عمّن قال: لا اله إلاّ الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقوم الساعة، والإيمان بالأقدار».
ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافراً بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضاً الشرك اضافة، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى الله شركاء، ولو جاز أن يكون كافراً من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمناً من لم يأت بالإيمان [......].
وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية.
وقيل: إن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً يدخل في النار مؤبداً لأنّ الله تعالى قال: {خَالِداً فِيهَا}.
يقال لهم: إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمناً متعمداً.
وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين لها على أنّا لو سلمّنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً متعمداً، فإنا نقول لهم: لِمَ قلتم إن الخلود هو التأبيد، خبرونا عن قول الله {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] فما معنى الخلد ههنا في النار، يقولون: إنه المراد به التأبيد في الدنيا.
والدنيا تزول وتفنى.
ومثله قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] وكذلك قوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3] إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد؟
فإن قالوا: لا ولابد منه، فيقال لهم: قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد، فكذلك يقول العرب: لأُودعنَّ فلاناً في السجن، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى؟
وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا: إن الله لما قال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6] دَلَّ على كفره لأن الله لا يغضب إلاّ على من كان كافراً أو خارجاً من الإيمان.
قلنا: إن هذه الآية لاتوجب عليه الغضب لأن معناه {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} ان يغضب عليه ويلعنه، وما ذكر الله من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجباً كقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وكم محارب لله ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني. إلى أن فارق الدنيا. {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
ولم يقل: أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها.
ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذاً لقوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [المائدة: 15] معنى، فكذلك ههنا.
ولو كان ذلك على معنى الوجوب.
كان لقوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ووجدنا في لغة العرب. إنه إذا قال القائل: جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذباً، وإذا قال: أجزيه، ولم يفعل كان كاذباً، فعلم أن منهما فرضاً واضحاً يدل على صحة هذا التأويل.
ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس.
قوله: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له.
وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال: فهو جزاؤه إن جازاه فهو جزاؤه.
روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: جزاؤه إن جازاه قال: فليس قوله: {وغضب عليه ولعنه} من الأفعال الماضية.
ومتى قلتم أن المراد منه: فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم: قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل.
وهو قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} [الكهف: 99]. {وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47] {وَقَالَ قَرِينُهُ} [ق: 23] كل ذلك يكون مستقبلاً، وقد يرد بلفظ المستقبل، والمراد به الماضي كقوله: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} [البروج: 8].
بمعنى إلاّ ان آمنوا، ومثله كثير، وقد قيل في تأويل هذه الآية: إن هذا الوعيد {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} مستحلاً لقتله، وأما قوله: من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة. وذلك يغفر الله لهم الذنوب.
وأمر بالتوبة منها فقال: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً} [النور: 31] ونحوه من الآيات. ولم يفصل بين ذنب وذنب، وإذا كان الله قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى..
قال الله {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70] وقال إخوة يوسف {اقتلوا يُوسُفَ} [يوسف: 9] ثم قال: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] يعني بالتوبة وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ فقال: نعم، فإن قيل: فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له؟ قيل: تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنباً ولم يستغفر الله منه ويدل على هذا ما حدّث:
خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفر إلاّ من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً».
قال خالد بن دهقان: فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمناً ثم اغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً».
قال خالد: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: اغتبط بقتله، قال: هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبداً.
سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لا أعلم للقاتل توبة إلاّ أن يستغفر الله.
وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] إلى قوله: {جَمِيعاً} [المائدة: 32]. هات يا أبا سعيد، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل.
فقال: إي والله الذي لا اله إلاّ هو ما جعل دماء بني اسرائيل أكرم من دمائنا، فإن قيل: فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] قال: ما نسخها شيء.
وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد: هل لمن قتل مؤمناً من توبة؟ فقال: لا، فنزلت عليه الآية {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 70].
قال سعيد: فقرأها عليّ ابن عباس كما قرأتها عليّ فقال: هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء.
وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال: لما نزلت هذه الآية التي في الفرقان {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 70] عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال: إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر.
نقول ومن الله التوفيق: إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل، وقوله: إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليماً سبيل الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لايقع في الأخبار، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعاً خبر أنّ.
فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولاً فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص.
وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان.
وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة. ثم أُنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء والله أعلم.
وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر. وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه {رادّ} لكتاب الله تعالى لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفوراً أي ما يكون صاحبه معذوراً ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها، ويؤيد ذلك. قضية الشفاعة وغيرها.
فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة، وصحة قولنا، فهذا حكم الآية.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس:نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان يقال له: مرداش بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنهُ كان على دين المسلمين.
فلما راى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبّر فنزل وهو يقول: لا اله إلاّ الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أُسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً.
وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتلتموه إرادة ما معه»ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على اسامة بن زيد فقال: يا رسول الله استغفر لي وقال: «فكيف بلا اله إلاّ الله»قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
قال أُسامة: فما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد، ثلاث مرات. فقال: «إعتق رقبة».
وبمثله قال قتادة، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه غنم فسلّم عليهم فقالوا: ما سلم عليكم إلاّ متعوّذاً، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله}.
وروى المبارك عن الحسن أنّ أُناساً من المسلمين لقوا أُناساً من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال: فشدَّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف. قال: إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه.
قال: وكان والله قليلاً نزراً.
قال: فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلاّ شققت عن قلبه؟». قال: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «لتنظر صادقاً كان أو كاذباً» قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنما ينبئ عنه لسانه» قال: فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح. وقد وضع إلى جنب قبره، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثاً فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب، قال: فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} الآية.
قال الحسن: أما ذاك ما كان أن تكون الأرض تحبس من هو شر منه ولكن وعظاً لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين {فَتَبَيَّنُواْ} يعني المؤمن من الكافر، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضاً.
قال: ابن سيرين: إنما قال: {إليكم} لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها، ويقال: العرض ماسوى الدراهم والدنانير {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعني ثواباً كثيراً لمن ترك قتل المؤمن {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا اله إلاّ الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها، فنهاهم أن يخيفوا أحداً بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} بالهجرة {فَتَبَيَّنُواْ} أن تقتلوا مؤمناً {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الخير والشر {خَبِيراً}.
روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً}، قال: حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا اله إلاّ الله: لست مؤمناً، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله: {وهو مؤمن}.
زعم ابن سيرين هو القول بهذه الآية.
وقالوا لما قال الله {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلاّ قولهم فلولا أن الإيمان هو القول، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذاً؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلاّ الله» وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط. ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول. ثم لم يكن ذلك ايماناً منهم. وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلا شققت عن قلبه».
فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأنّ حقيقة التصديق بالقول، ولكن ليس للعبد حكم إلاّ على ما سمعه منه فقط، وفي هذه الآية ردٌّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منَّ على المؤمنين من بين جميع الخلق. ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان. كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عاند غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني.
{لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش الأسدي وليس الأزدي وهما عميان فقال: يا رسول الله ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ماترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم.
وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لما نزلت هذه الآية {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله} قال ابن أم مكتوم: اللهم أنزل عذري، فنزلت {غير أولي الضرر} فوضعت بينهم وكان بَعد ذلك يغزو ويقول إدفعوا إليّ اللواء ويقول: أقيموني بين الصفين فإني لا استطيع أن أفرّ.
معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} فعرض ابن أم مكتوم قال: فبقيت فخذ رسول الله على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} وبقية الآية {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} عن الغزو أو الجهاد، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر، والضرر مصدر، يقال: رجل ضرير من الضرر.
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أولي. الضرر.
{والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غيرهم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين، ونُصِبَ على الاستثناء {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً} أي فضيلة {وَكُلاًّ} يعني المجاهد والقاعد {وَعَدَ الله الحسنى} ومن يجاهد الجنّة، وزاد من فضل المجاهدين فقال: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} قال: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في سبيل الله درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن محيريز في هذه الآية: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدد حضر الفرس الجواد المضمر سبعين خريفاً.


{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}
{إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية.
نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس.
ورأوا قلة المؤمنين قالوا: غرّ هؤلاء دينهم، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم، فذكر الله تعالى {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة} أي يقبض أرواحهم ملك الموت.
وقوله: {تَوَفَّاهُمُ} إن نَصَبْتَ جعلته ماضياً فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى {تَتَوَفَّاهُمُ} [النحل: 28] وأراد بالملائكة ملك الموت لأن الله تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد الله وقوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة} يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] علم أن المراد بقوله: {توفاهم الملائكة} ملك الموت والله أعلم.
فإن قيل: فلم أخرجه بلفظ الجماعة؟ قيل: قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عز وجل {انا نحن} ولا عليك إن الله واحد.
ومثله في القرآن كثير وقوله: {ظالمي} ظالمي أنفسهم بالشرك، والنفاق، ونصب ظالمي على الحال من {توفاهم الملائكة} في حال تحملهم أي شركهم {قالوا} يعني الملائكة.
{فِيمَ كُنتُمْ} أي فيماذا كنتم؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه: فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين؟
{قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} أي مقهورين عاجزين {فِي الأرض} يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين {قَالُواْ} يعني الملائكة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله} يعني أرض المدينة {وَاسِعَةً} أي آمنة {فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة.
وروى سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأُخرج منها.
وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم».
فأكذبهم الله عز وجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال: {فأولئك مَأْوَاهُمْ} أي منزلهم {جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي بئس المصير إلى جهنم.
ثم استثنى أهل مكة منهم فقال: {إِلاَّ المستضعفين} يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتجهزون للحوق به {مِنَ الرجال والنسآء والولدان} والمستضعفين نصب على الاستثناء من مأواهم {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} لا يقدرون على حيلة ولاقوة ولانفقة للخروج منها {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} لا يعرفون طريقاً إلى الخروج منها وقال: إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من الذين لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً وكنت غلاماً صغيراً {فأولئك} الذين هم بهذه الصفة {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي يتجاوز {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} وفي هذه الآية دليل على إمكان قول مَنْ قال إن الإيمان هو الأقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أظمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعة الله {يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}.
مجاهد: مراغماً كثيراً: أي متزحزحاً على كره.
علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، وعليّ بن الحكم عن الضحاك: المراغم: السهول من الأرض إلى الأرض.
أما السعة فسعة من الرزق، وبه قال مقاتل بن حيان.
وقال أبو عبيدة: المراغم والمهاجر واحد، يقال: راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب، والمُذهب في الأرض.
قال النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه *** عزيز المراغم والمهرب
وقال الشاعر:
إلى بلد غير داني المحل *** بعيد المراغم والمضطرب
قال القيسي: فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغماً أي مغاضباً لهم ومهاجراً أي مقاطعاً عن دينهم، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي صلى الله عليه وسلم هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه.
وقيل: إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب.
فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير وضيئاً يقال له: جندع فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، والله لا أبقى الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله. ثم قال: هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيداً فأتى خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وافى المدينة لكان مهاجراً، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل الله تعالى {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} قبل بلوغه إلى مهاجره {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ} أي وجب ثوابه {عَلىَ الله} بإيجابه ذلك على نفسه {وَكَانَ الله غَفُوراً} كان منه في حال الشرك {رَّحِيماً} بما كان منه في الإسلام.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي هاجرتم فيها {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي حرج وإثم {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ} أي علمتم {أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} في الصلاة {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} مجاهراً بعداوته وقال: [.
...] عدوا بمعنى أعداء والله أعلم.
قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة}.
تمام الكلام ههنا.
ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال: {فإن خفتم ان يفتنكم الذين كفروا} يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [يوسف: 51] الآية.
هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أُخرى عن يوسف وهو قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها {لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52].
وفي التفسير: أنَّ يوسف لما قال هذه المقالة. قال له جبرئيل عليه السلام ولا حين هممت؟ وعندئذ قال يوسف {وَمَآ أُبَرِّئُ نفسي} [يوسف: 53] ومثل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وقال: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} [القصص: 68] افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلاً بأول الكلام كان معناه [....].
قال: وحَمْل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى مافصلت قوله تعالى: {أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} متصلاً بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السُنّة ناسخة الكتاب، قيل: على زيادة معنى مع إستقامة نظمها أولى من حملها على غيرها.
حكم الآية:
اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أُبيح له القصر تخفيفاً عنه وإليه ذهب الشافعي، ورجّح الوجوب طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان في غزوة بني لحيان.
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} الآية.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا: «إن المشركين لما رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلّون جميعاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمهم ندموا على تركهم إلاّ كانوا كبراً عليهم فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر. وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم.
فلما قاموا إلى صلاة العصر نزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف فإن الله يقول: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} مقيماً يعني شهيداً معهم {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ} إلى آخر الآية قال: فعلمه جبرئيل صلاة أُخرى.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعاً، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين».
كيفية صلاة الخوف:
اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف.
فقال الشافعي: إذا صلى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائماً وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو، ويأتي الطائفة الأُخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالساً وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأُخرى منه.
واحتج بقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} الآية.
فاحتج أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك يوم ذات الرقاع.
وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} قال: هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بأزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائماً فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام، فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع.
ويدل على صحة هذا التأويل أيضاً حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة. قال: فإذا صلى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف اولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة. ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة.
قال الشافعي: فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائماً وأتموا لأنفسهم فحسن، وإن ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم فجائز ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها ما بقي عليه ثم يثبت جالساً حتى يقضي مابقي عليها ثم يسلم بهم.
قال: وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالساً في الثانية أوقائماً في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه. ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى.
قال: وإن كان العدو قليلاً من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لايسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلى بهم الإمام جميعاً وركع وسجد بهم جميعاً إلاّ صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا.
وإذا ركع ركع بهم جميعاً وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلاّ صفاً أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعاً معاً وقال: وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني.
ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس، وهذا نحو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عُسفان.
روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} قال قوم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم، وأثقالهم وأنزل الله تعالى {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ} فصلى العصر فصف أصحابه صفين. ثم كبر بهم جميعاً ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين قام النبي صلى الله عليه وسلم والصف الأقل ثم كبَّر بهم وركعوا بهم جميعاً فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعاً كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين، وتشهد، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف.
عطاء عن جابر قال: «صلينا مع الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين. وكبَّر وكبَّرنا معه جميعاً ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو.
وكلما قضى رسول الله السجود هو والصف الذي يليه. قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركع وركعنا جميعاً.
ثم رفع رأسه فاستوى قائماً فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الاولى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعاً»، كما نصنع وسلم هؤلاء بأقرانهم.
قال الشافعي: ولو صلى بالخلف [.
...]. فإذا صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يُسلم جائز وهكذا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن المحل.
وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن «عن جابر بن عبد الله أخبره إنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله أربع ركعات وصلى كل طائفة ركعتين».
قال المزني: وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له صلى الله عليه وسلم فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف.
وقال أبو حنيفة: السنٌّة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين، فيصلّي بفرقة ركعة، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلَّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون.
وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى. ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى. وأتمّت صلاتها، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف.
وهو ما «روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم فَصَفَّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو، فركع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، سجد مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ففعل مثل ذلك، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة وسجدتين».
قال نافع عن ابن عمر: فإن كان خوفاً أشد من ذلك، فليصلوا قياماً وركباناً حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة.
وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بذي قرد فصف صفاً يوازي العدو.
وقال: فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلم فيهم جميعاً ثم إنصرف وكان النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة».
حديث أبي هريرة في صلاة الخوف:
وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال: عام غزوة نجد، «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر. وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبّر الذين معه، والذين يقاتلون العدو جميعاً. ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه. والآخرون قيام مما يلي القوم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو.
ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو. فركعوا، وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد كما هو فثم سلم وسلموا جميعاً، فصلى رسول الله ركعتين. ولكل رجل من الطائفتين ركعتان».
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون خلاف في هذا بين العلماء إلاّ ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا: لايصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء الله.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا محارباً وبني أنمار «فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال» فنزل رسول الله والمسلمون معه ولايرون من العدو واحداً فوضع الناس اسلحتهم وأمتعتهم من ناحية وخرج رسول الله فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي، والسماء ترش فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس رسول الله وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي، ثم الحضرمي، فقال أصحابه: يا غويرث. هذا محمد قد انقطع من إصحابه. قال: قتلني الله إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الله»ثم دعا: «اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت». ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه ثم قال: «من يعصمك الآن يا غويرث» قال: لا أحد.
قال: إشهد أن لا اله إلاّ الله وأني عبده ورسوله، فقال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليه، فأعطاه رسول الله سيفه فقال غويرث: للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت خير مني. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه». فقالوا: ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائماً على رأسه ما منعك منه؟ قال: والله إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يدّي فسبقني فأخذه وقال: «يا غويرث من يمنعك مني الآن»، فقلت: لا ثم قال: «اشهد أن لا اله إلاّ الله وإني رسول الله وأعطيك سيفك» فقلت: لا، ولكني أُعطيك موثقاً أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً، فردّ السيف إليّ.
قال: وسكن الوادي فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وأقرأهم هذه الآية {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لاضرر {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} من عدوكم {إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} يهانون فيه.
قال الزجاج: الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانباً عن القصد ثمّ قال: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم، والأذى مقصور، يقال: أذى يأذي أذىً، مثل فرع يفرع فرعاً {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها {فاذكروا الله} يعني فصلوا لله {قِيَاماً} للصحيح {وَقُعُوداً} للسقيم {وعلى جُنُوبِكُمْ} للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس، ويقال: معناه فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال {فَإِذَا اطمأننتم} يعني صلاة الخوف والمرض والقتال، ورجعتم إلى منازلكم {فَأَقِيمُواْ الصلاة} أي أتموا الصلاة أربعاً {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} أي واجباً مفروضاً في الحضر والسفر، فركعتان في السفر وأربع في الحضر، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ووقتت مخففة.


{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} لا تضعفوا في طلب القوم. أبي سفيان واصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أي تتوجعون وتشتكون من الجراح {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أي يتوجعون ويشتكون من الجراح {كَمَا تَأْلَمونَ} وانتم مع ذلك امنون {وَتَرْجُونَ مِنَ الله} الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم الله وإظهار دينكم على سائر الأديان.
{مَا لاَ يَرْجُونَ} وقيل: تفسر الآية: وترجون من الله ما لا يرجون أي تخافون من عذاب الله ما لا يخافون. قال الفراء: لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد، كقول الله تعالى {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] أي لا يخافون أيام الله وكذلك قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي لاتخافون لله عظمة، وهي لغة حجازية.
قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الذائذا *** أسبعة لاقت معاً أم واحداً
وقال الهذلي: يصف معتار العسل ذا النوب وهي النحل:
ويروى في بيت نوب عوامل *** إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وخالفها في بيت نوب عوامل.
قال: ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولاخفتك وأنت تريد رجوتك.
{إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق}، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: «نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، وكان الدقيق يُنشَر من خرق في الحراب، حتى إنتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد ابن السمين، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده، وحلف لهم والله ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع، بلى والله لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق منتشراً فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق. حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي: دفعها لي طعمة بن البرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: أيطلبوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يُرى معذوراً فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه في ذلك، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إنْ لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرئ اليهودي فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فأنزل الله تعالى يعاتبه {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق}» الآيات.
وفي رواية أُخرى عن ابن عباس قال: إن طعمة سرق درعاً من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخاله فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة فأخذه وحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم رسول الله أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل الله تعالى هذه الآية.
علي بن الضحاك: «نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، استودع درعاً فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة، فأنزل الله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول}» [النساء: 110] الآية.
وقال مقاتل: إن زيد السمين أودع درعاً عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب، فأشرف على السطح، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال. ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال: أرى درعاً في دار أبي هلال، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه. ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشكوا وقالوا: إنهم قد فضحونا وسرقونا، فعاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} أي بالأمر والنهي والفصل {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي معيناً {واستغفر الله} ابن عباس قال: واستغفر الله مما هممت به من قطع يد زيد.
الكلبي: واستغفر الله يا محمد من همك باليهودي أن تضربهِ.
مقاتل: واستغفر الله من جدالك الذي جادلت عن طعمة {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}.
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} يعني خائناً في الدرع {أَثِيماً} في رميه اليهودي وقوله: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}. قد قيل فيه: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، كقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94] والنبي لايشك ممّا أنزل الله، فإن قيل: قد أمر بالاستغفار قلنا هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم.
واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه: يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستترون ويستحيون من الناس {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ} أي يستترون ولا يستحيون {مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ} يعني علمه.
{إِذْ يُبَيِّتُونَ}. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: يعني يقولون، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين: يولعون {مَا لاَ يرضى مِنَ القول} يعني بأن اليهودي سرقه {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} يعني قد احاط الله بأعمالهم الحسنة.
وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية، استدلوا منها على إن الله بكل مكان قالوا لمّا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ} ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله وهو معهم إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} [الملك: 16] ولم يرد قوله انه في السماء يَعني غير الذات لأن القول: أنّ زيداً في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لايكون إلاّ بالذات، وقال تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب} وقال: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} [السجدة: 5] فأخبر أنه يرفع الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم يدبر الأمر من السماء وإليه يصعد الكلم الطيب، ولو كان قوله (وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول) ثم أقبل على قوم طعمة وقال: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء} أي يا هؤلاء للتنبيه {جَادَلْتُمْ} أي خاصمتم عن أبي طعمة، ومتى سافر أبي بن كعب {عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} والمطلب به في اللغة بشدة المخاصمة وهو من الجدل وهو شدّة الفتل وفيه: رجل مجدول الخلق، وفيه: الأجدل للصقر لأنّه من أشدّ الطيور قوّة.
{فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ} أي عن طعمة {يَوْمَ القيامة} لما أخذه الله بعذابه وأدخله النار {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} كفيلاً.
ثم استأنف وقال: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا} يعني يسرق الدرع {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} برميه البريء في السرقة، يقال: ومن يعمل سوءاً أي شركاً أو يظلم نفسه يعني بما دون الشرك {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} أي يتوب إلى الله {يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} متجاوزاً {رَّحِيماً} به حين قبل توبته {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} يعني يمنه بالباطل {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} يقول فإنما يضرُ به نفسه ولا يُؤخذ غير الاثم بإثم الإثم {وَكَانَ الله عَلِيماً} بسارق الدرع {حَكِيماً} حكم القطع على طعمة في السرقة {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة} أي بيمينه الكاذبة، {أَوْ إِثْماً} بسرقته الدرع، وبرميه اليهودي {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أي يقذف بما جناه من مأمنه {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً} والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل.
وقال الزجاج: البهتان الكذب الذي يتخير من عظمه. {وَإِثْماً مُّبِيناً} ذنباً بيناً.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس {ومن يكسب خطيئة أو إثماً} عبد الله بن أبي بن سلول {ثم يرم به بريئاً} يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك، وقوله: {ثم يرم به} ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفراً، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ} بالنبوة {وَرَحْمَتُهُ} نصرك بالوحي {لَهَمَّت} يقول لقد همّت يعني أضمرت {طَّآئِفَةٌ} يعني جماعة {مِّنْهُمْ} يعني طعمة {أَن يُضِلُّوكَ} أي يخطؤك {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} يقول ومايخطؤن إلاّ أنفسهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} وكان ضره على من شهد بغير حق {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} قبل الوحي {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ} منّ الله عليك {عَظِيماً} بالنبوة.
هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، ثم قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} يعني به الإسلام والقرآن {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} يعني من ثقيف {أَن يُضِلُّوكَ} وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناماً بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه الله بمنّه وأخبره بنعمته عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه، فقال: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} يعني وفد ثقيف {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} يعني لايستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلاً ثم قال: {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} يعني الاحكام وعلمك مالم تكن تعلم من الشرائع وكان فضل الله أي منّ الله عليك بالإيمان عظيماً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8